سورة التوبة
الآية رقم (1 : 2)
{ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين }
هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كما قال البراء بن عازب: آخر آية نزلت {يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة}، وآخر سورة نزلت: براءة "أخرجه البخاري عن البراء بن عازب". وإنما لم يبسمل في أولها لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الإمام، بل اقتدوا في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي اللّه عنه وأرضاه. وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك، وبعث أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه أميراً على الحج تلك السنة ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي في الناس: {براءة من اللّه ورسوله}، فلما قفل أتبعه بعلي ابن أبي طالب ليكون مبلغاً عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كما سيأتي بيانه. فقوله تعالى {براءة من اللّه ورسوله} أي هذه براءة أي تبرؤ من اللّه ورسوله {إلى الذين عاهدتم من المشركين، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر}. اختلف المفسرون ههنا اختلافاً كثيراً، فقال قائلون: هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان، لقوله تعالى: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} الآية، ومن كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته؛ وهذا أحسن الأقوال وأقواها، وقد اختاره ابن جرير رحمه اللّه.
وقال ابن عباس: حدَّ اللّه للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر، يسيحون في الأرض حيث شاءوا، وأجلَّ أجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم، فأمر اللّه نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد، بقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر أن يضع فيهم السيف أيضاً حتى يدخلوا في الإسلام. وقال مجاهد: {براءة من اللّه ورسوله} إلى أهل العهد خزاعة ومدلج، ومن كان له عهد أو غيرهم، فقفل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تبوك حين فرغ، فأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحج ثم قال: (إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك)، فأرسل أبا بكر وعلياً رضي اللّه عنهما في ذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات عشرون من ذي الحجة إلى عشر تخلو من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا. ">الآية رقم (3)">
الآية رقم (3)
{ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم }
يقول تعالى: وإعلام {من اللّه ورسوله} وتقدم، وإنذار إلى الناس {يوم الحج الأكبر} وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكبرها جميعاً {أن اللّه بريء من المشركين ورسوله} أي بريء منهم أيضاً. ثم دعاهم إلى التوبة إليه فقال: {فإن تبتم} أي مما أنتم فيه من الشرك والضلال، {فهو خير لكم، وإن توليتم} أي استمررتم على ما أنتم عليه {فاعلموا أنكم غير معجزي الله}، بل هو قادر عليكم وأنتم في قبضته وتحت قهره ومشيئته {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} أي في الدنيا بالخزي والنكال، وفي الآخرة بالمقامع والأغلال. روى البخاري عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر يؤذن فيمن يؤذن يوم النحر بمنى ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل الأكبر، من أجل قول الناس الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مشرك "أخرجه البخاري في كتاب الجهاد". وقال الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة فقال: ما كنتم تنادون؟ قال: كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فإن أجله أو مدته إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن اللّه بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد عامنا هذا مشرك، قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي.
وعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعثه ببراءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال: (لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي)، فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه "رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: حسن غريب". وعن علي رضي اللّه عنه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين بعثه ببراءة قال: يا نبي اللّه إني لست باللسن ولا بالخطيب، قال: (لا بد لي أن أذهب بها أو تذهب بها أنت) قال: فإن كان لا بد فسأذهب أنا، قال: (انطلق فإن اللّه يثبت لسانك ويهدي قلبك)، قال: ثم وضع يده على فيه. وقال محمد بن إسحاق: نزلت براءة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس فقيل يا رسول اللّه: لو بعثت إلى أبي بكر، فقال: (لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي)، ثم دعا علياً فقال: (اذهب بهذ القصة من سورة براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أن لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فهو إلى مدته فخرج علي رضي اللّه عنه على ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العضباء، حتى أدرك أبا بكر في الطريق، فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن بالناس بالذي أمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فهو إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان ثم قدما على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام وأهل المدة إلى الأجل المسمى.
عن عطاء قال: يوم الحج الأكبر يوم عرفة، وقال عمرو بن الوليد السهمي عن عباد البصري قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: هذا يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر فلا يصومنه أحد، قال: فحججت بعد أبي فأتيت المدينة، فسألت عن أفضل أهلها، فقالوا: سعيد بن المسيب فأتيته، فقلت: إني سألت عن أفضل أهل المدينة، فقالوا سعيد بن المسيب، فأخبرني عن صوم يوم عرفة، فقال: أخبرك عمن هو أفضل مني مائة ضعف عمر أو ابن عمر كان ينهى صومه، ويقول هو يوم الحج الأكبر "رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وطاووس وغيرهم". والقول الثاني: أنه يوم النحر، قال الحارث الأعور: سألت علياً رضي اللّه عنه عن يوم الحج الأكبر فقال: هو يوم النحر. وقال عبد الرزاق عن عبد اللّه بن أبي أوفى أنه قال: يوم الحج الأكبر يوم النحر. وقال عبد اللّه بن سنان خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير فقال: هذا يوم الأضحى، وهذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر، واختاره ابن جرير، وروى عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: لما كان ذلك اليوم قعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بعير له وأخذ بخطامه أو زمامه فقال: (أي يوم هذا؟) قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، فقال: (أليس هذا يوم الحج الأكبر؟) "رواه ابن جرير قال ابن كثير: إسناده صحيح وأصله مخرج في الصحيحين".
الآية رقم (4)
{ إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين }
هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر لمن له عهد مطلق ليس بؤقت، فأجله أربعة أشهر يسيح في الأرض يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء، إلا من له عهد مؤقت فأجله إلى مدتة المضروبة التي عوهد عليها، وقد تقدمت الأحاديث ومن كان له عهد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعهده إلى مدته وذلك بشرط أن لا ينقض المعاهد عهده ولم يظاهر على المسلمين أحداً، أي يماليء عليهم من سواهم، فهذا الذي يوفي له بذمته وعهده إلى مدته، ولهذا حرض تعالى على الوفاء بذلك فقال: {إن اللّه يحب المتقين} أي الموفين بعهدهم.
الآية رقم (5)
{ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم }
اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم ههنا ما هي؟ فذهب ابن جرير إلى أنها المذكروة في قوله تعالى: {منها أربعة حرم ذلك الدين القيم} الآية، ولكن قال ابن جرير: آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم، وفيه نظر، والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس وهو قول مجاهد وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو الأرجح في رواية العوفي عنه، أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها بقوله: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر}، ثم قال: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} أي إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم وأجلناهم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم، لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر، ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة. وقوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} أي من الأرض، وهذا عام، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم}، وقوله: {وخذوهم} أي وأسروهم، إن شئتم قتلاً وإن شئتم أسراً، وقوله: {واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد} أي لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم، والرصد في طرقهم ومسالكهم، حتى تضيقوا عليهم الواسع وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام، ولهذا قال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن اللّه غفور رحيم}، ولهذا اعتمد الصديق رضي اللّه عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة، حيث حرمت قتالهم بشرط الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته، ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة التي هي حق اللّه عزَّ وجلَّ، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج، وهي اشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين، ولهذا كثيراً ما يقرن اللّه بين الصلاة والزكاة، وقد جاء في الصحيحين: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) الحديث، وقال عبد اللّه ابن مسعود: أمرتم بلإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له، وقال ابن أسلم: أبى اللّه أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة وقال: يرحم اللّه ما كان أفقهه!
وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فإذا شهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم) قال أنس: توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين}. وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك: إنها نسخت كل عهد بين النبي صلى اللّه عليه وسلم وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة. وقال ابن عباس في هذه الآية: أمره اللّه تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام، ونقض ما كان سمي لهم من العهد والمواثيق، وأذهب الشرط الأول. ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه، فقال الضحاك والسدي: هي منسوخة بقوله تعالى: {فإما منا بعد وإما فداء} وقال قتادة بالعكس.
الآية رقم (6)
{ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون }
يقول تعالى لنبيه صلوات اللّه وسلامه عليه: {وإن أحد من المشركين} الذين أمرتك بقتالهم، وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم {استجارك} أي استأمنك فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام اللّه، أي القرآن تقرؤه عليه، وتذكر له شيئاً من أمر الدين تقيم به عليه حجة اللّه {ثم أبلغه مأمنه} أي وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه {ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} أي إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين اللّه وتنتشر دعوة اللّه في عباده، ولهذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطي الأمان لمن جاءه مسترشداً، كما جاء يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش، فرأوا من إعظام المسلمين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما بهرهم، وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم. ولهذا أيضاً لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له: أتشهد أن مسيلمة رسول اللّه؟ قال: نعم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك)، والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو نحو ذلك من الأسباب وطلب من الإمام أو نائبه أماناً، أعطي أماناً ما دام متردداً في دار الإسلام وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه، لكن قال العلماء: لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر، وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء رحمهم اللّه.
الآية رقم (7)
{ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين }
يبين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا، فقال تعالى: {كيف يكون للمشركين عهد} أي أمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون باللّه كافرون به وبرسوله {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام} يعني يوم الحديبية، {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} أي مهما تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم {فاستقيموا لهم إن اللّه يحب المتقين}، وقد فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك والمسلمون، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست إلى أن انقضت قريش العهد ومالأوا حلفاءهم، وهم بنو بكر على خزاعة أحلاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقتلوهم معهم في الحرم أيضاً، فعند ذلك غزاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في رمضان سنة ثمان ففتح اللّه عليه البلد الحرام ومكنه من نواصيهم وللّه الحمد والمنة، فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم فسموا الطلقاء، وكانوا قريباً من ألفين، ومن استمر على كفره وفر من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر يذهب حيث شاء، ومنهم صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل وغيرهما ثم هداهم اللّه بعد ذلك إلى الإسلام التام، واللّه المحمود على جميع ما يقدره ويفعله.
الآية رقم (8)
{ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون }
يقول تعالى محرضاً المؤمنين على معاداتهم والتبري منهم، ومبيناً أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم باللّه تعالى وكفرهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولأنهم لو ظهروا على المسلمين وأديلوا عليهم لم يبقوا ولم يذروا ولا راقبوا فيهم إلاً ولا ذمة، قال ابن عباس: الإل القرابة، والذمة العهد وهو قول الضحاك والسدي كما قال تميم بن مقبل: أفسد الناس خلوف خلفوا: قطعوا الإل وأعراق الرحم ، وقال مجاهد: الإل: اللّه أي لا يرقبون اللّه ولا غيره، والقول الأول أظهر وأشهر وعليه الأكثر، وعن مجاهد أيضاً: الإل العهد، وقال قتادة: الإل الحلف.
الآية رقم (9 : 11)
{ اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون . لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون . فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون }
يقول تعالى ذماً للمشركين وحثاً للمؤمنين على قتالهم: {اشتروا بآيات اللّه ثمنا قليلا} يعني أنهم اعتاضوا عن اتباع آيات اللّه بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة {فصدوا عن سبيله} أي منعوا المؤمنين من اتباع الحق {إنهم ساء ما كانوا يعملون * لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة} تقدم تفسيرها وكذا الآية التي بعدها.
الآية رقم (12)
{ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون }
يقول تعالى: وإن نكث هؤلاء المشركون الذين عاهدتم أيمانهم أي عهودهم ومواثيقهم
{ وطعنوا في دينكم } أي عابوه وانتقصوه، ومن ههنا أخذ قتل من سب الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بنقص، ولهذا قال: {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} أي يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال، قال قتادة: أئمة الكفر كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف، قال ابن مردويه: مرَّ سعد بن أبي وقاص برجل من الخوارج، فقال الخارجي: هذا من أئمة الكفر، فقال سعد: كذبت بل أنا قاتلت أئمة الكفر، والآية عامة وإن كان سبب نزولها
الآية رقم (13 : 15)
{ ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين . قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين . ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم }
وهذا أيضاً تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين بأيمانهم الذين هموا بإخراج الرسول من مكة، كما قال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك}، وقال تعالى: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} الآية، وقال تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها} الآية، وقوله: {وهم بدؤوكم أول مرة} قيل: المراد بذلك يوم بدر حين خرجوا لنصر غيرهم، وقيل: المراد نقضهم العهد وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة أحلاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى سار إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام الفتح وكان ما كان، وقوله: {أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين}، يقول تعالى: لا تخشوهم واخشون فأنا أهل أن يخشى العباد من سطوتي وعقوبتي، ثم قال تعالى بياناً لحكمته فيما شرع لهم من الجهاد، مع قدرته على إهلاك العدو {قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} وهذا عام في المؤمنين كلهم، وقال مجاهد وعكرمة: {ويشف صدور قوم مؤمنين} يعني خزاعة، {ويتوب اللّه على من يشاء} أي من عباده {واللّه عليم} أي بما يصلح عباده، {حكيم} في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية فيفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وهو العادل الحاكم الذي لا يجور أبداً.
الآية رقم (16)
{ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون }
يقول تعالى: {أم حسبتم} أي ظننتم أن نترككم مهملين، لا نختبركم بأمور يظهر فيها الصادق من الكاذب، ولهذا قال: {ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون اللّه ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة} أي بطانة ودخيلة، بل هم في الظاهر والباطن على النصح للّه ولرسوله، فاكتفى بأحد القسمين عن الآخر، كما قال الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضاً * أريد الخير أيهما يليني
وقال تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}؟ وقال تعالى: {ما اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه} الآية، والحاصل: أنه تعالى لما شرع لعباده الجهاد بيَّن أن له فيه حكمة وهو اختبار عبيده من يطيعه ممن يعصيه، وهو تعالى العالم بما كان وما يكون، فيعلم الشيء قبل كونه ومع كونه على ما هو عليه، لا إله إلا هو ولا رب سواه.
الآية رقم (17 : 18)
{ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون . إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين }
يقول تعالى: ما ينبغي للمشركين باللّه أن يعمروا مساجد اللّه التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له، وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر أي بحالهم وقالهم: كما قال السدي: لو سألت النصراني ما دينك؟ لقال: نصراني، ولو سألت اليهودي ما دينك؟ لقال: يهودي، {أولئك حبطت أعمالهم} أي بشركهم {وفي النار هم خالدون}، ولهذا قال تعالى: {إنما يعمر مساجد اللّه من آمن بالله واليوم الآخر} فشهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد. كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان، قال اللّه تعالى: {إنما يعمر مساجد اللّه من آمن بالله واليوم الآخر} "رواه أحمد والترمذي وابن مردويه والحاكم". وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنما عمار المساجد هم أهل اللّه)،
وعن أنس مرفوعاً يقول اللّه: وعزتي وجلالي إني لأهم بأهل الأرض عذاباً، فإذا نظرت إلى عمار بيوتي، وإلى المتحابين فيّ، وإلى المستغفرين بالأسحار، صرفت ذلك عنهم قال ابن عساكر: حديث غريب . وقال عبد الرزاق عن عمر بن ميمون الأودي قال: أدركت أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم وهم يقولون: إن المساجد بيوت اللّه في الأرض، وإنه حق على اللّه أن يكرم من زاره فيها، وقال المسعودي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ولم يأت المسجد ويصلي، فلا صلاة له وقد عصى اللّه ورسوله، قال اللّه تعالى: {إنما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه واليوم الآخر} "أخرجه ابن مردويه"، وقوله: {وأقام الصلاة} أي التي هي أكبر عبادات البدن {وآتى الزكاة} أي التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق، وقوله: {ولم يخش إلا اللّه} أي ولم يخف إلا من اللّه تعالى ولم يخش سواه {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}، قال ابن عباس: من وحّد اللّه وآمن باليوم الآخر {وأقام الصلاة} يعني الصلوات الخمس {ولم يخش إلا اللّه} يقول لم يعبد إلا اللّه {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}، يقول تعالى إن أولئك هم المفلحون كقوله لنبيه صلى اللّه عليه وسلم: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}، وهي الشفاعة، وكل عسى في القرآن فهي واجبة، وقال محمد بن إسحاق: وعسى من اللّه حق.
الآية رقم (19 : 22)
{ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين . الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون . يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم . خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم }
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أسر ببدر قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني، قال اللّه عزَّ وجلَّ: {أجعلتم سقاية الحاج - إلى قوله - واللّه لا يهدي القوم الظالمين}، يعني أن ذلك كله كان في الشرك ولا أقبل ما كان في الشرك، وقال الضحاك: أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك، فقال العباس: أما واللّه لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونفك العاني، ونحجب البيت، ونسقي الحاج، فأنزل اللّه: {أجعلتم سقاية الحاج} الآية. وعن النعمان بن بشير الأنصاري قال: كنت عند منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل للّه عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل اللّه خير مما قلتم، فزجرهم عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، قال: ففعل، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد - إلى قوله - واللّه لا يهدي القوم الظالمين} "أخرجه عبد الرزاق ورواه مسلم وأبو داود وابن مردويه وابن حبان وابن جرير وهذا لفظه".
الآية رقم (23 : 24)
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون . قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين }
أمر تعالى بمباينة الكفار، وإن كانوا أباء أو أبناء، ونهى عن موالاتهم إن استحبوا أي اختاروا الكفر على الإيمان، وتوعد على ذلك، كقوله تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون باللّه واليوم الآخر يوادون من حاد اللّه ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}، ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على اللّه ورسوله وجهاد في سبيله فقال: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها} أي اكتسبتموها وحصلتموها {وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها} أي تحبونها لطيبها وحسنها أي إن كانت هذه الأشياء {أحب إليكم من اللّه ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا} أي فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم ولهذا قال: {حتى يأتي اللّه بأمره واللّه لا يهدي القوم الفاسقين}. وروى الأمام أحمد عن زهرة بن معبد عن جده قال: كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: واللّه يا رسول اللّه لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه)، فقال عمر: فأنت الآن واللّه أحب إليّ من نفسي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (الآن يا عمر) "انفرد بإخراجه البخاري". وقد ثبت في الصحيح عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) وعن ابن عمر قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط اللّه عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) "رواه الإمام أحمد وأبو داود واللفظ له عن ابن عمر مرفوعاً".